"الله لا يفرق بينا"




 

دائما ظننت أن كوني "صبيا" يمنحني امتيازات لا تُمنح لأخواتي الثلاث، حتى حين انفصل والِـدَيَ، كنت أظن أن "ذكورتي" هي من أعطتني صلاحية البقاء مع أبي دون أخواتي.

 

و رغم ابتعادي عن والدتي و أخواتي، إلا أني كنت أعتز بنفسي، فأنا الابن الوحيد الذي سيحتفظ به والدي مهما كانت خلافاته مع أمي.

 

غير أن شدته معي و صرامته، كانا يبعثران اعتزازي، لم أكن أدرك لمَ يحتفظ بي في حين أنه لا يستطيع احتمالي معه.

 

جئته ذات نهار أطلب منه زيارة أمي و شقيقاتي.. كاد أن يفترسني، فلزمتُ الصمت، حتى عمتي – زوجة أبي – لم تكن عونًا لي، إلا أنها كانت أرحم بي منه.

 

ظللتُ مع أبي شهور عديدة دون أن أرى أمي أو أُحادثها عبر الهاتف، كنت أشعر بالخمول.. أو هو الشوق و الحنين لوالدتي، فإذا بأبي يدخل للبيت يجُـرُ دراجتين هوائيتين..

 

تهلل وجهي ..

 

أسرعت إليه لأنتقي من بين الدراجتين، فَــنَهَرَني: "ليست لك ..إنها لأَخَوَيك"

 

أخَـوَي من عمتي.. كان لهما الحق في امتلاك دراجة هوائية لأنهما صغيران، بينما كان عليَ أن أراقبهما و أهتم بهما لأني كما يقول أبي كبرت على هذه الألعاب، فبلوغ الثامنة يعني أني أصبحت رجلا صغيرا أكبر من عمر اللعب و أصغر من إتخاذ قرار أو إبداء رأي أو مشورة.

 

أحقـًا تسمى هذه الطفولة المبتورة في ذلك العمر "رجولة" ؟!

 

 

 

ذات مساء، اشتدت بي الحُمى، بقيت طريح الفِراش لأيام،

 

عمتي كانت تهتم بي، تقدم لي الوجبات، تضع الكمادات، و تسقيني الدواء،

 

و لكن دون جدوى.

 

كنتُ أنام طويلا، دون أن أشعر بالوقت، أَفَقتُ على صوت عمتي تطلب من أبي أن يأخذني لوالدتي حتى تقر عينها بي و تقر عيني بها،

 

رفض،

 

أصَرت عليه و قد ارتفع صوتها: "سيموت الولد!"

 

صرَخ: "فَـلتُفجَع به!"

 

ثم..

 

نمت.. أو.. ربما ظننتُ ذلك..

 

تتسارع الأفكار في رأسي..

 

"أَ كان والدي يُصِرُ على التمسك بي لِيفجَعَ قلب أمي كما يقول؟

 

أ لأني ابن أمي بُترت طفولتي؟

 

إذن لم تكن ذكورتي امتيازًا كما ظننت، لقد كانت..."

 

ثم، غرقتُ في النوم ثانية.

 

صحوتُ على هذيان أفكاري، أو هي أفكاري التي صَحَت دوني..

 

أمي.. أراها تكرر الدعاء الذي اعتدناه:

 

"الله لا يفرق بينا"

 

كانت تعلم أننا سنفترق،

 

أمي.. ليتني كنتُ بنتـًا، لبقيتُ معكِ!

 

 

 

 

 

أيقظتني عمتي لتسقيني الدواء، أو لأتناول الطعام،

 

لست أتذكر،

 

ما أذكره أني فتحت عيني و قلت: "أريد أمي"

 

اقتربت عمتي أكثر، قبلت رأسي، و ضمتني،

 

لأول مرةٍ تفعلها!

 

استسلمت بين يديها لأرتشف من حضنها بعضَ قوة.

 

في اليوم الرابع، الخامس.. أو السابع ،

 

لا أعلم أي الأيام كان،

 

شعرت بذراعين تحملاني، فتحت عيني، رأيتُ أمي،

 

تمتمتُ و أنا أحاول التيقن مما أراه:

 

"أمي.. لا تكوني حُلُمـًا"

 

اعتصرتني تضمني، فعلمتُ أنها حقيقة.

 

إصرار عمتي و إشفاقها علي، جعل أبي يستسلم لإلحاحها و يعيدني إلى أمي.

 

لحظتها..

 

عادت بي ذاكرتي إلى دعاء أمي المتكرر حين كانت تختمه قائلة: "قولوا آمين"

 

فقلت: "آمين، آمين، آمين"

 

سمعتني أمي و أنا لازلت بين ذراعيها، نظَرَت إلي مُستفهمة،

 

فابتسمتُ لها قائلا بعينين منهكتين: "الله لا يفرق بينا" .

 

 

تعليقات

  1. ما ذاك الدعاء غير أمنية نطلقها لرب الأمنيات بها ندفع المخوف من شبح الفراق الذي لا يُراعي صغيرا ولا كبيرا ، محباً كان أم مُبغضا ، فسيفه على رقاب الخلق ماضٍ. ويبقى الدعاء يصدح في الأرجاء.

    ردحذف
    الردود
    1. و نعمَ بالله رب الخلق و رب الأمنيات

      شكراً لمروركم الكريم

      حذف
  2. الله لا يفرق بيننا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مضيعةُ وقت