حسابات ..



أنهت مكالمتها قائلة:

" عزيزي .. أنا لا أريد أن أعيش مع أموالك ، أريد أن أعيش معك "

أغلق الهاتف و ابتسامة شاحبة ارتسمت على شفتيه : " خطيبتي الحبيبة تظن أن السعادة تكمن في الحُب فقط ..

كيف يعيش الحُب و ينمو إذا لم ينميه المال ؟! "

عاد إلى أوراقه و دفاتر حساباته ، لا يذكر أين توقف في العَـد قبل أن تهاتفه خطيبته،

لا بأس ، سيُعيدُ الحساب والعَد ثانيةً ..

" مجموع الراتب ، إذا أضفتُ له ما حصلتُ عليه من عملي الإضافي يصبح المجموع الكُلي (...) ، طيب "

ثم يسحب مبلغًا من المجموع الكلي لِيَضعه في ظرف ورقي كُتِبَ عليه : " المهر" .. هو لم يُكمل بعدُ مهرَ حبيبته ..

بعدها يأخذ مبلغا آخر و يضعه في ظرف ورقي آخر كُتِبَ عليه : " دَينُ فلان "..

" و الآن .. كم بقي من الراتب ؟"

يحسبُ يدويا ثم يعود ليتأكد بالآلة الحاسبة لئلا يُخطئ ،

" جيد .. ما بقي يكفيني حتى نهاية الشهر "

ثم يتذكر التزامه بجمعيةٍ اشترك فيها لأجل أن يُعينَ أمه في ترميم منزلها الذي ما عاد يحتمل المزيد من السنين ..

" أوه .. و أختي أيضا ، طلبت مني مبلغا هذا الشهر لتشتري به فستانا و بعض حاجاتٍ و هدايا لتحضر عرس صديقتها "

يعود ليحسب مجددا ما بقي من الراتب ..

تنهد ..

كم يوما يا ترى سيكفيه ما بقي ؟

عليه أن يقتصد أكثر هذا الشهر ،

ليس لديه خطة بديلة  إذا نفد ما يدخره قبل حلول راتب الشهر القادم ..

هل يُضيفُ عملاً إضافيًا آخر ليكسب منه ؟

ابتسم .. و ما بقي له من الابتسامات غير الشاحبة منها .. خطيبته ترفض أعماله الإضافية .. لأنه لا يُغرِقُها حُبـًا

و إنما يُغرِقُ نفسه في العمل ..

" أخي .. ماذا تفعل ؟ "

تدخل أخته فجأة ، لتتطاير أفكاره و تتلاشى ،

يحاول تجميعها قبل هروبها ..

فتضحك أخته بهستيرية لمنظره أمام أوراقه .. مما جعل لا بد من أن يستسلم لهروب خططِ هذا الشهر ..

خرجت من عنده و هي ما تزال تضحك ،

بينما شَرَدَ هو فيها ،

هي لا تدرك المسؤولية المُلقاةَ على كاهل راتبه ،

تظن ، كما تظن خطيبته ، أن الأموال تتهاطل عليه من السماء دونما جهد ،

تظنان أن حساباته هذه و أعماله الإضافية التي تنهكه ، هي مضيعةُ وقتٍ لا أكثر ،

و أنها تسرقه من حياته شيئا فشيئا دون أن يدرك ذلك ،

لحظَتـَها تراءت له صورة أخته قبل عدة سنواتٍ حين جاءته تبكي لأن إحدى زميلاتها استهزأت بحذائها المهترئ ،

و قالت لها : " لعلكِ ستأتين العام القادم بحذائكِ هذا ، فأنتم لا يمكنكم شراء الجديد"

في حين أنه لم يكن في ذلك الوقت من  يعوله و أخته و والدته سوى صدقات المحسنين ،

و منذ هذا الجرح الذي ظل يتجدد في صدره كلما نفد راتبه ، قرر أن يكتفي بالشهادة الثانوية لِيَجد له عملا يوفر له و لأمه حياةً كريمة،

و حياةَ مرفهةَ لأخته بالذات .

 

تناول إحدى دفاتره .. فتــش في صفحاته ..

ثم قرأ : دَيـنُ والدي لفلان (...) ، قضيت منه (...) ، و يتبقى علينا (...) ،

حدث نفسه : " متى سأقضي عليه كاملاً ؟ مضت عدة سنوات و أنا أحاول أن أُنهيه براتبي الهزيل هذا "

و بينما هو في أفكاره مع والده الحبيس و أمنياته بأن يعود إليهم بعد قضاء هذا الحِمل ، هتفَ نقاله برسالة ،

رسالةٍ من خطيبته :

" أظن أننا تعجلنا في قرار الخطوبة ، و هذا ليس في صالح كلينا "

أغلق هاتفه و أسند رأسه بإحباطٍ على الجدار خلفه ،

تنهّد بانكسار ،

حدث ما كان يخشاه ،

حبيبته لم تحتمل أن تظل مهملةً - كما تقول- في سبيل أن يوفر لها رغد العيش ،

و بقدر الجرح الذي أضافته رسالتها إلى جراحه ، كبرت أمنيةٌ أخرى و هو يتأمل أوراقه المتناثرة ..

" بهذا .. أضُمّ ظرف المهر إلى ظرف دَيـنِ والدي ، حتى نُـقلّص ما بقي عليه من السنوات حبيسًا "

 

 

انتهى .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مضيعةُ وقت