كحيـــل العينين



حين دخلتُ حصة الاحتياط في ذلك الفصل .. ألقيت عليهم السلام و جلست ..لم تمض دقائق حتى جاءتني احدى الطالبات تشكو:
"أستاذة.. علي يسقط أقلامي و يكتب في طاولتي"
ناديت:علي
فإذا بصبي يخرج رأسه من خلف زميله :نعم أستاذة
كانت ملامحه البدوية قد كستها براءة لطيفة تخفي وراءها مشاكَسَةٌ مُزعجة..و طغى على هذه اللطافة عينان جميلتان كحيلتان.. كدت أبتسم إعجابا أمام هذه الخِلقَةِ الربانية الجميلة و لكني أخفيت إعجابي بنظرة حادة :لم فعلت هذا يا علي؟
صمت علي و هو يبتسم خجلا..
قلت : إذن.. ليس هنالك سبب سوى إثارة الفوضى.
عندها طلبت منه أن يجمع أقلام زميلته و يمسح الخربشات التي كتبها على طاولتها..
انتهينا من علي الكحيل العينين..
و انتظرت أن تَرِدَ إِلَيَ قضية أخرى..
كم أكره حصص الاحتياط.. أن تتعامل مع ثلاثين طالبا لأول مرة شيء غاية في الصعوبة.. و مهارة إدارة حصص الفراغ لا أتقنها إلا مع طلابي.
"أستاذة"..
يا إلهي ، عدنا إلى المقاضاة.."نعم"
-أستاذة.. علي يقول بأنه سيهرب من الحصة.
علي ثانية!
ناديت بغضب:علي.. تعال إلى هنا
اقترب علي مني بخوف.. نظرت إليه فإذا بي أرى عن قرب إبداع الخالق في عينيه البدويتين..كنت أظنه يضع كحلا في عينيه و لكن جمال عينيه هو من أوحى لي بذلك
"لِمَ تخطط للهروب يا علي؟
هل أنا أستاذة سيئة لدرجة أنك لم تطقني ؟"
استحى علي و قال : لا
طلبت منه أن يبقى هادئا حتى نهاية الحصة ..
فهز رأسه بالإيجاب .. و لكن هيهات.. كل الفصل يشتكي من علي ذي الملامح البريئة
إنه لا يَحتمِل أن يبقى هادئا لدقائق.
ملكت أعصابي حتى انتهت الحصة ،و حين دق الجرس أسرعت بالخروج من فصل"علي" فإذا بي أسمع أحدهم يناديني
"أستاذة"
قلت لنفسي : ماذا أيضا؟
التفت فإذا به "علي"
- أستاذة.. هل ستعودين إلينا ثانية؟
آاه.. يا لجمال براءتك يا "علي"..
- لا أعلم يا علي.. قد أعود إليكم يوما في حصة احتياط أخرى..
هل تريدني أن أعود؟
- نعم
ضحكت و قلت له : أنت أكبر من أن تكون مشاكسا.. في السنة القادمة ستذهب عنا إلى مدرسة الحلقة الثانية.. كن عاقلا و سأعود إليكم.
- حاضر أستاذة
قالها و هو يبتسم ثم عاد إلى داخل الصف.
ههه.. لا أظن أن قلبك صغى إلى كلماتي هذه بقدر ما صغت أذنيك
لم تمض حصة على ذلك حتى رأيت "عليـًا" تجره الأخصائية الاجتماعية إلى غرفة المديرة..و لا أعلم أهو من حسن الحظ أو من سوئه أن كنت موجودة مع المديرة في تلك اللحظة
"لقد تعبت من هذا المجنون.. جِدِي له ،و لي ، و لأستاذاته حلا جذريا"
قالتها الأخصائية الاجتماعية بغضب و هي لا تزال تمسك بملابسه
"و ماذا فعل ثانية؟" ردت عليها مديرة المدرسة بيأس
- تخيلي.. وجدته أستاذته في دورة مياه البنات..
ارتعدت المديرة "ماذا؟"
- و قد حاول أن يفتح باب الحمام على زميلته بالفصل، و لا يريد الاعتراف بذلك.
فإذا بي أرى وجه "علي" قد اكتست سمرته البدوية بحمرة تحمل في طياتها خوفا من القادم
وخِزيًا من تهمة لا نعلم مدى صحتها
لم أحتمل المكوث أكثر.. خرجت مسرعة لكي لا أزيد إحراجه.
********
بعد انتهاء حصة الاحتياط بحصة أخرى ، كان موعد حصة الرياضة التي كنت أكرهها بسبب الأستاذة البغيضة.. لذلك فكرت في أن أهرب من الفصل قبل وصول المعلمة..
لم يكن أمامي خيار سوى "حمامات البنات" حيث كانت الأقرب إلى فصلنا ، فركضت
مسرعا إلى هناك.. رأيت بأني سأكون مكشوفا أمام مغاسل الحمامات لذلك قررت أن أدخل إلى أحد الحمامات ..
حاولت فتح أول باب و وجدته مغلقا فانتقلت إلى الثاني.. كان مفتوحا و..
"علي؟.. ماذا تفعل هنا؟"
التفت ورائي و إذا بها إحدى طالبات فصلي
-لماذا تصرخين؟ أريد أن أدخل الحمام.
-و لكنها حماماتنا..اخرج من هنا.
- اصمتي.. لن أتأخرهنا.
-سأخبر الأستاذة عنك.
-أخبريها.
يا لهذه البنت.. إنها تحب إحداث المشاكل.. قررت أن أخرج و أتحمل حصة الرياضة .. و ما كدت أخرج من الحمام حتى رأيت أستاذة الرياضة تقف أمامي و عيناها تمتلآن غضبا و بجانبها تقف تلك البنت
"ماذا كنت تفعل هناك يا علي؟"
صمت.. لم أستطع أن أخبرها بأني كنت مختبئا هناك منها.. و هي لم تصبر طويلا..
طَلَبَت من تلك الطالبة أن تجرني إلى الأخصائية الاجتماعية .. حينما ابتعدنا عن الأستاذة سحبتُ يدي منها و قلت:
اتركي يدي..أنا أعرف الطريق إلى الأخصائية.
تركَت يدي و لكنها ظلت تسير بجانبي حتى تخبر الأخصائية بكل شيء
وصلنا.. و فعلا أخبرتها بكل شيء رأته
كم غضبت الأخصائية و كم استاءت .. استجوبتني و لكني لم أجبها.. و بِمَ سأجيبها؟
قلت ستعاقبني ككل مرة و أعود إلى الفصل
و لكنها لم تعاقبني.. أخذتني إلى مديرة المدرسة لتجد حلا جذريا لي كما قالت.
*******
ذهبت إلى غرفة المعلمات لكي أبتعد بأفكاري عن "علي"
مضت حوالي حصة وإذا بإحدى المعلمات تدخل لتنقل لنا خبر"علي" الذي دخل دورة مياه البنات، و أن إدارة المدرسة استدعت والده لتناقشه في الأمر
و الأسوأ من ذلك أن هذا الوالد صفع ابنه أمام إدارة المدرسة و أكد عليه بأنه سيلقى أشد من ذلك حالما يصل إلى البيت
انتشر خبر هذا المسكين بسرعة بالغة في أرجاء المدرسة
ليس فقط مع المعلمات بل حتى الطلبة و الطالبات بدأوا يتهامسون في قضيته و يخبروا من لا يعلم من المعلمات بفعلته.
كم أشفقت على "علي".. تساءلت .. لو كنت أخصائية اجتماعية ماذا كنت سأفعل؟
بعد حوالي ساعة و نصف جاءتني إحدى زميلاتي المعلمات تطلب مني أنأساعدها في حمل بعض الكتب إلى مكتب المديرة
فأجبتها.. قلت في نفسي لابد أن الأمور هدأت الآن و "علي" قدعاد إلى صفه
و لكني تفاجأت بـ"علي" يقف معاقبا داخل مكتب المديرة
ما إن دخلنا حتى رفع بصره إلينا لثواني ثم أخفضه
رأيت كل شيء في عينيه الكحيلتين.. إحراج و خوف و ألم و هوان
و رأيت أيضا بقايا من صفعة أبيه على خده
تألمت كثيرا لمنظره
"أ هذا هو الطالب الذي دخل ... ؟"
سألت زميلتي المديرة ، فأجابتها: نعم
-براءته لا توحي بأنه يفعل ما فعل.
ضحكت المديرة باستهزاءٍ و قالت: البراءة غالبا ما تخفي خلفها المصائب .
كانتا تتحدثان عنه وهو يسمع.. وأنا أقف كالتمثال .. أسمع وأرى من دون أن أنطق أو أبدي رأيًا،
هكذا أنا .. أظل صامتة في وقت الحاجة وفي غير وقتها لكي لا أشعل حريقًا حولي.
" إلى متى سيظل واقفا معاقبا هنا؟ " تمنيت أن أسأل المديرة هذا السؤال ولكني لم أجرؤ،
ترى.. ما الذي دفعكَ لِأَن تدخل دورات مياه البنات ؟ و لِمَ تتحمل كل هذه الإهانة ؟
أنت لم تعترف بشيء ..
" لماذا يُعاقـَـب على تهمة و ليس على ثبوتها؟ " أردت أن أسألها هذا أيضا ..
و لكني بقيت صامتة فقط ، كأني لا أرى شيئا.
بعد أكثر من أسبوعٍ من هذا سألت إحدى معلماته عنه ، فابتسمت بارتياحٍ وقالت:

" تصدقين .. لقد تغير كثيرا منذ ذلك اليوم.. أصبح هادئا و لا يزعج أحدًا".



انتهى


تم المشاركة بهذه القصة في المسابقة الرمضانية للمواهب القصصية بالمنتدى التربوي
لعام 1453هـ/2014م

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مضيعةُ وقت